البابا في الجمهورية التشيكية (3) – اللقاء بسلطات الجمهورية التشيكية: " منذ زمن القديسين كيرلس وميتوديوس والمرسلين الأولين، يؤدي إيمان المسيحيين دوراً حاسماً في صوغ الإرث الروحي والثقافي في هذه البلاد"

الاثنين, 28 سبتمبر 2009

براغ، (وكالة فيدس) – التقى البابا بندكتس السادس عشر يوم السبت الماضي بالسلطات المدنية والسياسية واتلهيئة الديبلوماسية في الجمهورية التشيكية في قصر براغ الرئاسي، وألقى كلمة ذكّؤ فيها بأن زيارته تتزامن مع الذكرى العشرين لسقوط الأنظمة التوتاليتارية في أوروبا الوسطى والشرقية، ولـ "الثورة المخملية" التي أعادت الديمقراطية إلى هذه الأمة. "إن تطلعات المواطنين والتوقعات الملقاة على عاتق الحكومات – قال البابا - دعت إلى نماذج جديدة من الحياة المدنية والتضامن بين الأمم والشعوب، نماذج كان من دونها مستقبل العدالة والسلام والازدهار بعيد المنال. ما تزال هذه الرغبات قائمة. حالياً، وبخاصة بين الشباب، يُطرح السؤال مجدداً عن طبيعة الحرية المكتسبة. ما هو الهدف من العيش بحرية؟ وما هي مميزاتها الفعلية؟
"إن التطلعات البشرية –تابع قداسته - تسمو إلى أبعد من ذاتها، أبعد مما تتمكن أي سلطة سياسية أو اقتصادية من تقديمه، نحو رجاء متألق (المصدر عينه، 35) يتجذر خارج أنفسنا ويتجلى كالحقيقة والجمال والصلاح. تسعى الحرية إلى غاية، لذا تتطلب قناعة. تفترض الحرية الحقيقية البحث عن الحقيقة – الخير الفعلي – وتتحقق تحديداً في معرفة الصواب والعدل والقيام بهما. إن الحقيقة هي بمعنى آخر المعيار المرشد نحو الحرية، والصلاح هو كمال الحرية...في الواقع أن المسؤولية السامية القائمة على التوعية على الانفتاح على الحقيقة والصلاح تقع على عاتق جميع الزعماء – الدينيين والسياسيين والثقافيين، كل واحد على طريقته". وقال البابا إنه "منذ زمن القديسين كيرلس وميتوديوس والمرسلين الأولين، يؤدي إيمان المسيحيين دوراً حاسماً في صوغ الإرث الروحي والثقافي في هذه البلاد. هكذا يجب أن يبقى في الحاضر والمستقبل. فإن الإرث الزاخر بالقيم الروحية والثقافية التي تعبر كل منها عن الأخرى لم يشكل هوية الأمة فحسب، وإنما زودها أيضاً بالرؤية اللازمة لتأدية دور لحمة في قلب أوروبا. على مدى قرون عديدة، تبقى هذه الأراضي نقطة التقاء بين مختلف الشعوب والتقاليد والثقافات. إننا ندرك جميعاً أنها شهدت فصولاً مؤلمة وأنها تحمل ندوب الأحداث المأساوية الناتجة عن سوء الفهم والحرب والاضطهاد. كذلك من الصحيح أن جذورها المسيحية نمت روحاً مميزة من المغفرة والمصالحة والتعاون سمحت لشعب هذه الأراضي بإيجاد الحرية وبدء حقبة جديدة ووحدة جديدة، وتجديد الرجاء.
وأشار بندكتس السادس عشر الى أن أوروبا هي أكثر من قارة. "إنها وطن! والحرية تجد معناها العميق في وطن روحي. مع الاحترام الكامل للاختلاف بين مجالي السياسة والدين – الذي يحافظ على حرية المواطنين في التعبير عن معتقداتهم الدينية والعيش بموجبها – أود التشديد على دور المسيحية المتعذر الاستغناء عنه في تنشئة ضمير كل جيل وتعزيز إجماع أخلاقي أساسي يخدم كل شخص يدعو هذه القارة "وطناً"! من هنا، أعبر عن شكري لأصوات من يسعون حالياً في مختلف أنحاء هذه البلاد وهذه القارة إلى العمل وفق إيمانهم باحترام وحزم على الساحة السياسية، على أمل أن تطّلع المعايير الاجتماعية والسياسات على الرغبة في العيش وفقاً للحقيقة التي تحرر كل رجل وامرأة".
وقال البابا للحاضرين: "إن الأمانة للشعوب التي تخدمونها وتمثلونها تتطلب الأمانة للحقيقة التي تشكل وحدها ضمانة الحرية والتنمية البشرية الشاملة. وفي الواقع أن الشجاعة على إظهار الحقيقة تخدم كل أفراد المجتمع من خلال إلقاء النور على درب التقدم البشري، والإشارة إلى أُسسه الأخلاقية، وضمان أن تستلهم السياسة العامة من كنز الحكمة البشرية. مهما عظمت أهمية المصالح الخاصة، يجب ألا تحجب إدراك الحقيقة الشاملة لأن ذلك لا يؤدي إلا إلى نماذج جديدة من التشرذم أو التمييز الاجتماعي التي تدعي جماعات المصالح أو الضغط العمل على تخطيها. بعيداً عن تهديد التسامح مع الاختلافات أو التعددية الثقافية، يؤدي السعي وراء الحقيقة إلى التوصل إلى الإجماع، ويسمح للنقاش العام بأن يبقى منطقياً، صادقاً ومسؤولاً، ويضمن الوحدة التي لا تستطيع أفكار التكامل المبهمة تحقيقها...إن وجودنا اليوم في هذه العاصمة الرائعة التي كثيراً ما تسمى بقلب أوروبا، يحثنا على السؤال عن مكونات هذا "القلب". في حين أنه ما من جواب بسيط عن هذا السؤال، إلا أننا نجد دليلاً مؤكداً في التحف المعمارية التي تزين هذه المدينة. إن روعة كنائسها وقصرها وساحاتها وجسورها لا يمكنها سوى اجتذاب أفكارنا إلى الله. فجمالها تعبير عن الإيمان وهي عبارة عن ظهور الله الذي يجعلنا نتأمل في المعجزات المجيدة التي يمكننا التوق إليها كمخلوقات عندما نعبر عن المظاهر الجمالية والمعرفية لذاتنا. كم من المأساوي أن يتأمل أحد في نماذج الجمال هذه مهملاً السر السامي الذي تشير إليه. إن اللقاء المبدع بين التقليد الكلاسيكي والإنجيل أدى إلى خلق رؤية لدى الإنسان والمجتمع تدرك حضور الله بيننا. من خلال صوغ الإرث الثقافي في هذه القارة، شددت على أن العقل لا يقتصر على ما تراه العينان وإنما يميل إلى ما يكمن وراء ذلك، ما نتوق إليه بشدة: روح الخلق.
"الحقيقة تنتصر". هذا هو الشعار الذي يحمله علم رئيس الجمهورية التشيكية. في النهاية ستنتصر الحقيقة لا بالقوة بل بالإقناع والشهادة البطولية للرجال والنساء أصحاب المبدأ الثابت، بالحوار الصادق الذي يتطلع إلى ما هو أبعد من المصالح الذاتية، أي إلى متطلبات الخير العام. إن الظمأ إلى الحقيقة والجمال والصلاح الذي وضعه الخالق في جميع الرجال والنساء، من شأنه أن ترشد الشعوب معاً نحو البحث عن العدالة والحرية والسلام. لقد أظهر التاريخ بإسهاب أنه من الممكن خيانة الحقيقة والتلاعب بها في خدمة إيديولوجيات خاطئة وأعمال جور وقمع. ولكن ألا تدعونا التحديات التي تواجه الأسرة البشرية إلى النظر إلى ما وراء هذه المخاطر؟ ففي النهاية، ما هو أكثر قسوة ودماراً من السخرية المنكرة لعظمة بحثنا عن الحقيقة، والنسبوية المفسدة للقيم التي تلهم بناء عالم موحد وأخوي؟ بدلاً من ذلك، يجب أن نكتسب ثقة في عظمة الروح البشرية في قدرتها على فهم الحقيقة، ونفسح المجال أمام هذه الثقة لترشدنا إلى العمل الصبور في السياسة والدبلوماسية. (وكالة فيدس 28-09-2009)


مشاركة: