البابا في فيتيربو (1): " عندما يضيع القلب في صحراء الحياة، لا تخافوا بل أوكلوا أنفسكم إلى المسيح، بكر البشرية الجديدة: عائلة إخوة مبنية على الحرية وعلى العدالة، على الحقيقة وعلى محبة أبناء الله."

فيتيربو (وكالة فيدس) - خلال زيارته الى فيتيربو ترأس البابا بندكتس السادس عشر القداس الإلهي في سهل فالّي فاول. والقى قداسته عظة تحدث فيها عن المكان فقال: " نحن في "وادٍ" يواجه البوابة العريقة المسماة "فاول"، والتي تذكر بأحرفها الأربعة أسماء تلال فيتربيوم القديمة الأربعة أي فانوم-أربانوم-فيتولونيا-لونغولا. من ناحية يرتفع شامخًا القصر الذي كان في الماضي مقام البابوات، والذي – كما ذكر أسقفكم – في القرن الثالث عشر شهد 5 اجتماعات حبرية سرية؛ تحيط بنا أبنية ومساحات تشهد لأحداث الماضي الكثيرة، والتي تدخل اليوم في نسيج حياة مدينتكم ومحافظتكم.
وبعد أن وجه تحيات للجميع تحدث البابا حضور الرب فقال: "كل جماعة ليتورجية هي فسحة لحضور الله. باجتماعهم للاحتفال بالافخارستيا المقدسة، يعلن تلاميذ الرب أنه قام، وأنه حي وواهب الحياة، ويشهدون أن حضوره هو نعمة، هو مهمة، وهو فرح. نفتح قلبنا لكلمته ونتقبل نعمة حضوره! في القراءة الأولى، يشجع النبي أشعيا (35، 4 – 7) "فزعي القلوب" ويعلن جدة رائعة، تثبتها الخبرة: عندما يكون الرب حاضرًا، تنفتح عيون الأعمى، وتسمع آذان الأصم، و "يقفز" الأعرج كالأيّل. تولد جميع الأشياء من جديد وتعود إلى الحياة لأن مياهً محيية تروي الصحراء. "الصحراء"، في لغته الرمزية، يمكن أن يشير إلى الأحداث المأساوية، إلى الحالات الصعبة، إلى الوحدة التي تواكب غالبًا الحياة؛ الصحراء الأعمق هي قلب الإنسان عندما يفقد القدرة على الإصغاء، والكلام، والتواصل مع الله ومع الآخرين. يضحي عندها أعمى لأنه لا يستطيع أن يرى الواقع؛ تنغلق الآذان لكي لا تسمع نداء من يصرخ طالبًا النجدة؛ يتحجر القلب جراء اللامبالاة والأنانية. ولكن الآن – يعلن النبي أشعيا – كل هذه الأمور ستتغير؛ هذه "الأرض القاحلة"، أرض القلب المنغلق سترتوي من منهل إلهي جديد. وعندما يأتي الرب، يقول بسلطان لفزعي القلوب في كل عصر: "تشجعوا، لا تخافوا!"
وقال بندكتس السادس عشر بأن هذا النص يرتبط بشكل جيد بالنص الإنجيلي الذي يسرده القديس مرقس يشفي يسوع في أرض وثنية أخرس أصم. ويستقبله أولاً ثم يعتني به عبر لغة الإيماءات، التي هي ذات أسلوب مباشر أكثر من الكلمات؛ ثم يقول كلمة باللغة الأرامية: "إِفَّتَح!"، أي "انفتح"، ويعيد لذلك الرجل السمع والقدرة على الكلام. والشعب، إذ يصيبه العجب يهتف: "لقد أحسن في كل ما فعله!". يمكننا أن نرى في هذه "العلامة" توق يسوع المتقد إلى الانتصار على وحشة الإنسان وعدم قدرته على التواصل المتولدة عن الأنانية، لكي يهب محيًا لـ "بشرية جديدة"، بشرية الإصغاء والكلمة، والحوار والتواصل، والشركة مع الله. بشرية "حسنة"، كما أن كل خليقة الله هي حسنة؛ بشرية دون تمييز، دون تهميش – كما يحض القديس يعقوب في رسالته – حتى يضحي العالم حقًا وللجميع "حقل أخوة أصيلة" (فرح ورجاء، 37)، في انفتاح الحب على الآب المشترك الذي خلقنا وجعل منا أنباءه وبناته. يا كنيسة فيتربو العزيزة، فليفتح المسيح قلبك هو الذي نراه في الإنجيل يفتح أذني الأصم الأبكم ويحل عقدة لسانه، وليهبك دومًا فرح الاصغاء لكلمته، وشجاعة إعلان إنجيله، وقدرة الكلام عن الله والكلام أيضًا مع إخوتك وأخواتك، وأخيرًا شجاعة اكتشاف وجهه وجماله!
أود أن أستعرض بعض النقاط الروحية والرعوية من هذه المسيرة التي تتلقين أنت أيضًا ، أيتها الكنيسة الحبيبة القائمة في هذه الأرض، الدعوة لكي تكوني جزءًا منها. إن أولوية عزيزة على قلب أسقفك هي التربية على الإيمان، كبحث، كتنشئة مسيحية، كحياة في المسيح. "الصيرورة المسيحية" التي تتألف من "تعلم المسيح" الذي يعبر عنه بولس بهذا التعبير: "لست أنا من أحيا، بل المسيح حي فيّ" (غلا 2، 20). تدخل في هذه الخبرة الرعايا، العائلات ومختلف المؤسسات. ويتلقى دعوة الالتزام معلمو التعليم المسيحي وجميع المربين؛ إنها دعوة لتقديم الإسهام الشخصي من المدرسة التمهيدية وحتى جامعة توسكيا، التي تزداد أهميتها وشهرتها، وبشكل خاص المدرسة الكاثوليكية والمعهد الفلسفي اللاهوتي "سان بيترو" .هناك أمثلة آنية دومًا، ورواد أصلين للتربية على الإيمان، تستطيعون أن تستوحوا مثالهم. يسرني أن أذكر من بينهم، القديس روزا فينيريني (1656 – 1728) – والتي كانت لي فرحة إعلان قداستها منذ ثلاثة سنوات – وهي رائدة حقة للمدارس الأنثوية في إيطاليا، بالتحديد في "عصر الأنوار"؛ القديسة لوتشيا فيليبيني (1672 – 1732) التي، بعون الكاردينال المكرم ماركو أنطونيو بارباريغو (1640 – 1706)، أسست المؤسسة الحميدة "معلمات التقوى". من هذه الينابيع الروحية يمكن الارتشاف لمواجهة حالة "الطوارئ التربوية" الحالية، الأولوية، والتي لا يمكن الاستغناء عنها، بروح واعٍ وبتماسك. هذه الحالة التربوية هي تحدٍ كبير لكل جماعة مسيحية، وللمجتمع بأسره، فهي عملية "إفتح"، انفتاح للآذان وانحلال لعقد اللسان واستنارة للعيون.
إلى جانب التربية، شهادة الإيمان. "الإيمان – يكتب القديس بولس – يضحي عاملاً بفضل المحبة" (غلا 5، 6). من هذا المنطلق يرتكز عمل محبة الكنيسة: فمبادراتها، وأعمالها هي علامة للإيمان ولمحبة الله، الذي هو الحب – كما ذكرت بشكل واسع في الرسالتين العامتين "الله محبة" و "المحبة في الحقيقة". يزهر هنا و يزداد حضور المتطوعين، إن على الصعيد الشخصي، وإن على الصعيد المؤسساتي، ويجد في المحبة (Caritas) عنصره النابض والمربي. القديسة الشابة روزا (1233 – 1251)، شفيعة الأبرشية، والتي يصادف عيدها في هذه الأيام، هي مثال بليغ للإيمان والسخاء نحو الفقراء. كيف لنا ألا نذكر أيضًا أن القديسة جاتشينتا ماريسكوتي (1585 – 1640) عززت في المدينة السجود للقربان المقدس انطلاقًا من ديرها، وأقامت مؤسسات ونشاطات لأجل المساجين والمهمشين؟ كما ولا يمكننا أن ننسى الشهادة الفرنسيسكانية للقديس كريسبينو الكبوشي (1668 – 1759)، الذي ما زال حتى الآن يلهم مؤسسات عضد جديرة. من الأهمية بمكان نشوء العديد من الأديار النسائية والرجالية في هذا المناخ من الحماسة الإنجيلية، وبشكل خاص نشوء أديار الراهبات الحبيسات، التي تشكل دعوة منظورة لأولية الله في وجودنا، وتذكرنا بأن أول أشكال المحبة هو الصلاة. ويشكل نموذجًا خاصًا مثال الطوباوية غابرييلا ساغيدّو (1914 – 1939)، الترابيستية: ما زال دير فيتوركيانو حيث دفنت، واحة للمسكونية الروحية، التي تتغذى من الصلاة المستمرة، والتي شجعها المجمع الفاتيكاني الثاني (راجع إعادة الوحدة، 8). أذكر أيضًا الفيتربيّ الطوباوي دومينيكو باربيري (1792 – 1849)، بالباسينويستي، الذي استقبل في عام 1845 في الكنيسة الكاثوليكية جون هنري نيومان، والذي صار في ما بعد كاردينالاً، وهو شخصية فكرية سامية ومعلم روحي نيّر.
أود أخيرًا أن أشير إلى خط ثالث في برنامجكم الرعوي: الانتباه لعلامات الله. كما فعل يسوع مع الأخرس الأصم، كذلك ما زال الله يكشف لنا عن مشروعه من خلال "أحداث وكلمات". لذا يجب أن يكون الإصغاء لكلماته وتمييز علاماته التزامًا لكل مسيحي ولكل جماعة. إن أقرب علامات الله المباشرة هي العناية بالقريب، إذ بحسب مقولة يسوع: "كل ما فعلتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فلي قد فعلتموه" (مت 25، 40). وكما يصرح المجمع الفاتيكاني الثاني، المسيحي مدعو لكي يكون "أمام العالم شاهدًا لقيامة الرب يسوع وحياته، وعلامة للإله الحي" (نور الأمم، 38). يجب أن يكون كذلك في المقام الأول الكاهن الذي اختاره المسيح لذاته بكليته. خلال هذه السنة الكهنوتية، صلوا بحرارة أكبر من أجل الكهنة، من أجل الإكليريكيين، ومن أجل الدعوات، لكي يكونوا أمناء لدعوتهم هذه! كما ويجب أن يكون علامة الله الحي كل شخص مكرس وكل معمّد.
أيها المؤمنون العلمانيون، شبابًا وعائلات، لا تخافوا أن تعيشوا وأن تشهدوا للإيمان في مختلف أطر المجتمع، وفي مختلف حالات الوجود البشري! لقد عبرت فيتربو في هذا المجال عن شخصيات شهيرة. في هذا الإطار إنه لواجب وحبور عميم أن نذكر الشاب ماريو فاني من فيتربو، مؤسس "دائرة القديسة روزا"، الذي أشعل، مع جوفاني أكواديرني من بولونيا، ذلك النور الأول الذي أصبح في ما بعد خبرة تاريخية للعلمانيين في إيطاليا: الحركة الكاثوليكية. تتوالى فصول التاريخ، تتغير الأطر الاجتماعية، ولكن لا يتحول ولا تتبدل الدعوة التي يتوجب أن يعيشها المسيحيون: عيش إنجيل التعاضد مع العائلة البشرية، بالسير على خطى الزمان. هذا هو الالتزام الاجتماعي، هذا هو العمل السياسي، هذا هو النمو البشري المتكامل. أيها الإخوة والأخوات الأعزاء! عندما يضيع القلب في صحراء الحياة، لا تخافوا بل أوكلوا أنفسكم إلى المسيح، بكر البشرية الجديدة: عائلة إخوة مبنية على الحرية وعلى العدالة، على الحقيقة وعلى محبة أبناء الله. يشكل جزءًا من هذه العائلة القديسون الأعزاء على قلبكم: لورنسيوس، فالنتينوس، إيلريوس، روزا، لوتشيا، بونافنتورا، وغيرهم الكثيرون. أمنا المشتركة هي مريم التي تكرمونها باسم سيدة السنديانة، شفيعة كل الأبرشية في بينتها الجديدة. فليحموكم هم دومًا في الوحدة، وليساعدوكم على تغذية الرغبة بإعلان حضور وحب المسيح، بالكلمات وبالأفعال (وكالة فيدس 6-9-09)